لماذا يفعل الناس ما يفعلونه، في الأماكن التي يفعلونه فيها؟
رحلة مبسطة في أرشيف جون رولاند إيليك لاكتشاف حياةٍ مضت ولم تغب
عادة أمضي صباح الجمعة، بين دفّات الأرشيفات. لا أذكر على وجه التحديد متى بدأت هذا الطقس، لكن يشهد الله بأنها تمدني بطاقة وقت بدء عطلة نهاية الأسبوع (هنا في ألمانيا) . أبدأ باختيار أرشيف، مهما كان موقعه في العالم، ثم أشرع في تصفح فهرسه. وصدقوني بأن هناك دائمًا الكثير مما يستحق البحث، كم من الأمور الشيقة والمذهلة يمكن اكتشافها! وهنا تبدأ الرحلة. والطريف أنني، في كل مرة، أشعر كأرنب صغير سقط في جحر لا فرار له، أتنقل بين طبقة وأخرى، حتى يستوقفني شيء ما...
وفي هذه المرة، كانت صورة فوتوغرافية جداً جميلة من حيث زاوية اللقطة. التُقطت عام 1969م، ألوانها آسرة وتدرجاتها ساحرة. في خلفيتها بيوت نجدية الطراز، لم يُحدَّد موقعها بعد لكن أعتقد بأنها في الخرج، ويظهر في مقدمتها رجال، وكل ما في الصورة يعيد إلى ذاكرتي الروايات التي سمعتها من خالاتي، تلك التي ورثتها عنهن. لم أعش في ذلك الواقع، بل هو غريب عني، ومع ذلك، هناك همسة خفية تقول لي إن ثمة انتماء...
وعندما يتبلور هذا الإحساس، يراودني شعور، بل ممكن هوس بأنني أريد أن أغوص أعمق. من كان المصوّر؟ كيف وصل إلى هنا؟ ما الصور الأخرى التي التقطها وتستحق التأمل؟ والأهم: ما الذي لفت انتباهه؟
لحسن الحظ اسمه مذكور في الأرشيف (وهو أرشيف جامعة ويسكونسون) - الرجل الذي في الصورة هو جون رولاند إيليك (1919م–1997م)، أستاذ في الجغرافيا، الذي كان يُعرف عند طلابه بسؤاله: "لماذا يفعل الناس ما يفعلونه، في الأماكن التي يفعلونه فيها؟" سبحان الله - زار هذا الرجل نحو 80 دولة لإجراء أبحاثه وللتدريس. زار المملكة بين ستينيات وثمانينيات القرن العشرين، حيث عمل في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن كاستاذ. أتصوّر أن سؤاله هذا هو ما دفعه لاكتشاف محيطه؛ دون أن يتخيل أن أحدًا، بعد عقود، سيتأمل ما التقطته عدسته ويتساءل عمّا أثار فضوله آنذاك.
جال في أرجاء المملكة، وزاخرت أرشيفاته بلقطات توثيقية رائعة… من بينها صورة لمزارع يستخدم ثيرانًا لاستخراج المياه لريّ الحقول، في نظام يُعرف باسم "السواني" — طريقة تقليدية تعتمد على الحيوانات لاستخراج المياه من العيون أو الآبار العميقة. تأملت هذه الصورة طويلًا - ويا لكرم الأرض التي سخرها الله لنا.
الصورة، والتي يُعتقد أنها تعود إلى السبعينيات، تُظهر مزيجًا بين القديم والجديد: فبينما تنقل الأنابيب المياه بوسائل حديثة، ما زال الثور جزءًا من النظام الزراعي التقليدي.
وهنا يتبادر إلى ذهني سؤال آخر: ما المشاهد اليومية الأخرى التي وثّقها إيليك؟ أحمل سؤاله في ذهني، وأتعمق أكثر في أرشيفه، أبحث عن صور تكشف ملامح حياة مضت؛ ذكرى بهتت لكنها لم تُمحَ.
في جدة، على سبيل المثال، مشهد من السوق يعجّ بالتفاصيل. مقارنة بصورة نجد، نلاحظ أن جدة كانت تمرّ بتحول عمراني: أسلاك كهربائية، زحام، شاب يحمل سلّة فوق رأسه، وامرأة وحيدة في طرف الصورة الأيسر... كلها مشاهد تعبّر عن حياة نابضة، تُعاش بطريقتها الخاصة.
ومن مشاهد الحياة اليومية، إلى صورة التُقطت في الفاو في 11 ديسمبر 1969، حين خرج إيليك مع اثنين من زملائه في رحلة استكشافية. وجدوا أطلالًا من الحجارة المنحوتة، وشظايا فخارية... تحمل هذه الصور قيمة عظيمة لكل من يسعى لفهم كيف كانت الحياة في الأزمنة السحيقة؛ فكثير من هذه القطع إما حُفظ في قسم الآثار بجامعة الملك سعود، أو تم أخذها من قِبَل زائرين سابقين.
لكن تبقى أعظم صوره، في نظري، تلك التي توثّق الحياة الاجتماعية. يا لها من نافذة ثمينة على أواخر الستينيات، تلك الحقبة المليئة بالتحولات التي كثيرًا ما نتجاهلها. كصورة جلسة الشاي في خيمة بالصحراء مع أفراد من قبيلة آل مرة بالقرب من الفاو. لا يوجد مشهد يُجسّد الروابط الاجتماعية مثل هذا. لحظات كهذه ما زلنا نعيشها حتى اليوم.
وفي صورة أخرى، نرى أطفالًا يلعبون في القطيف. تذكّرت طفولتي حين كنت أركض بين النخيل في بريدة خلال زياراتي. أعادت لي هذه الصورة تلك الذكرى. وكم كان مؤلمًا أن تتمسك بجذع النخلة فتجرحك. لكن لا شيء يُضاهي شعور الطفولة، وشغف الهرب ممن يلاحقك!
وعلى الطرف الآخر من البلاد، نرى رجالًا يحصدون محاصيلهم؛ يعملون بجدّ لتأمين لقمة عيشهم وعائلاتهم.
كل هذا... كان إيليك محظوظًا بأن يشهده، وأن يكون شاهدًا على تغيرات سريعة حاول كثيرون فهمها واستيعابها آنذاك. تراود عندي شعور بالتوقف - وإلا ألاحظ أن الساعة أصبحت الرابعة والنصف مساءً، وقد أمضيت يومي كلّه متأملة في أرشيف هذا الرجل. هناك ما يقارب 600 صورة—جميعها جميلة، ومتنوعة، ومتفردة… لا يمكنني اختيار المزيد… لذا سامحوني راح اكتفي هنا.
ونرجع لسؤاله... لماذا أفعل ما أفعله، وفي المكان الذي أفعله فيه؟
لأنني ببساطة أحب ما أفعل. أجد راحتي فيه، وأجد نفسي في هذه الصور، واعترف بأنها امتدادات لهويتي... ومن خلال مشاركتها معكم، أشعر بأنني لا زلت أعيش تلك الذكرايات…
إطلالات جميلة شكرًا غادة
مقالة ممتعة حقاً ولقطات اختيرت بعناية بارعة استمتعت بتأملها. شكراً غادة